مجتمع التحقق العربي هو منظمة بحثية غير ربحية معنية بدراسة الأخبار الزائفة والمعلومات المضللة باللغة العربية على الانترنت، وتقديم الحلول الرائدة والمبتكرة لرصدها

خطاب الإبادة في سوريا: الفم يضغط الزناد

خطاب الإبادة في سوريا: الفم يضغط الزناد
true_platform

الكاتب

true_platform

شكلت مجازر الساحل السوري الأخيرة تطوراً خطيراً فاقم تهديد السلم الأهلي في سوريا، إذ تحقق جانب كبير من المخاوف التي رافقت سقوط نظام الأسد، واشتملت على احتمالات حدوث انتقامات عشوائية تطال الأبرياء والمدنيين ما قد يدفع البلاد المثخنة بجراح حرب طويلة إلى منزلق الفوضى والدماء من جديد، فمع وقوع هذه المجازر واحتمالية عدم الجدية في محاسبة مرتكبيها قد يغدو التحريض الطائفي أحد عناوين مرحلة ما بعد سقوط نظام الأسد.

ويبدو أن التحريض ما زال يتجسد على مستويات عدة، كما كان الحال قبل سقوط النظام، من تكرار الصور النمطية التي شكلتها فئات من السوريين تجاه فئات أخرى خلال مُددٍ زمنية طويلة، مروراً بتصاعد خطاب الكراهية خلال النزاع، وانتهاءً بأشد أصناف الكراهية قسوة وأكثرها خطورة وهي الدعوات الصريحة للقتل والإبادة التي ساهمت، دون شك، في وقوع أعمال قتل ممنهجة على أساس طائفي في مناطق سوريّة عديدة سابقاً، ومنها مناطق الساحل السوري، في آذار/مارس الماضي.

تهدف هذه الورقة إلى تحليل دعوات الإبادة الموجهة التي ظهرت في السياق السوري خلال السنوات الماضية، وتحليل آثاره على المجتمع السوري الذي لا يزال يواجه احتمالية مخاطر استمرار النزاع. كما تركز الورقة على الدور المتزايد لوسائل التواصل الاجتماعي في نشر هذا الخطاب وتعمق تأثيره بين مختلف فئات المجتمع، وتسعى إلى استعراض تطور هذا الخطاب من مرحلة ما قبل سقوط نظام الأسد إلى ما بعده، مع التركيز على بعض النماذج العملية لهذا الخطاب في فترات مختلفة من النزاع. تهدف الورقة أيضاً إلى تقديم إطار لفهم تأثير خطاب الكراهية والتحريض على الإبادة في سياق الصراع السوري، واستعراض آليات المواجهة القانونية والإعلامية والمجتمعية للحد من تداعياته، وتقليل تأثيره على السلم الأهلي والمصالحة الوطنية.

خطاب الكراهية ودعوات الإبادة ما قبل سقوط النظام

نتيجة حدة الاستقطاب السياسي وتصاعد العنف بين أطراف سورية خلال عقود طويلة، وتمركز هذا الاستقطاب بين حواضنها الشعبية، تكثفت نزعات الكراهية بين فئات عريضة لهذه الحواضن، فالذاكرة المشتملة على حمولة كثيفة من القمع والمجازر كما في الصراع الدموي بين حكم الديكتاتور حافظ الأسد والإخوان المسلمين وصولاً إلى مجزرة حماة 1982 وما سبقها من صدامات وتوترات مثل مجزرتي مدرسة المدفعية وسجن تدمر، ثم الحرب الطويلة بعد عام 2011 خلقت أشكالاً من التعميم وتصورات كارهة للغير فاقمت ميراث الغموض والتوجس اللذين اكتنفا نظرة السوريين المتمايزين قوميّاّ ودينيّاّ وطائفيّاً وسياسيّاً بعضهم تجاه بعض، خصوصاً بين قطاعات واسعة من أبناء الطائفتين السنية والعلوية الذين تمركزوا إلى حد كبير حول طرفي الصراع الأساسيين النظام السابق من جهة والمعارضة بأشكالها وفصائلها المتعددة من جهة أخرى، وبالرجوع إلى عقود أسبق لا بد من ذكر "العهد" الذي كان طلبة المرحلتين الإعدادية والثانوية ملزمين بترديده كل صباح، وظل سارياً حتى نهاية التسعينيات ويشتمل على تهديد بـ"سحق تنظيم الإخوان المسلمين" في دليل على تسخير العملية التربوية للتعبئة والتحضير للإبادة والقتل، وقد تصاعدت حدة خطاب الكراهية في فترات الحرب ضد فئات أخرى من الشعب السوري كالكرد والمسيحيين والدروز والإسماعيليين، وسائر الأقليات، ولم يخل هذا الخطاب من دعوات الإبادة والقتل.

تجدر الإشارة هنا إلى أن هذا الخطاب تخطى، في كثير من الأحيان، الانتماء الطائفي أو القومي، فكثير من مؤيدي النظام السابق على سبيل المثال، لم يكونوا علويين، وقد صدر عنهم تحريض مباشر على أسس الانتماء أو الاصطفاف السياسي، أما مكمن الخطورة في هذا الخطاب فيتمثل في تصعيده وتنميته وإمكانية تحويله إلى أفعال على المستوى الفيزيائي كما حصل في آذار/مارس 2025 في الساحل السوري على يد قوات وعناصر محسوبة على الإدارة السورية الجديدة، سبق ذلك ارتكاب قوات النظام السابق مجازر عديدة ذات صبغة طائفية في أماكن عديدة، سيما في الأعوام الأولى للحراك الشعبي ضد حكم بشار الأسد.

من نماذج الخطاب الداعي للقتل في فترة ما قبل سقوط نظام الأسد نجد التحريض الضمني لبشار الأسد نفسه الذي استخدم توصيفات وأفكاراً كانت تمهد للقتل والإبادة، وبما أنه كان في مركز القرار فمفاعيل إشاراته وتلميحاته الضمنية ترقى إلى مستوى التحريض الصريح، بل تتعداها، ويمكن الإشارة هنا إلى ما قاله في كلمته أمام رجال دين وأئمة وخطباء مساجد مؤيدين له، في تشرين الثاني/ نوفمبر 2015: "إذا انطلقنا من حقيقة واحدة بأننا أمام عشرات الآلاف من الإرهابيين السوريين. أنا لا أتحدث عن إرهابيين أتوا من الخارج،... فهذا يعني أنه خلف هؤلاء حاضنة اجتماعية. هناك عائلة، هناك قريب وجار وصديق وأشخاص آخرون. يعني نحن نتحدث عن مئات الآلاف، وربما الملايين من السوريين، ولو كان مليوناً نقول ملايين".

وإذا ما عدنا أيضاً إلى ما ردده من مقولة سوريا المفيدة "قبل ذلك، ومقولة "التجانس" بعدها، سيبدو جليّاً أن خطابه تضمن دعوات للتمييز بين المواطنين السوريين ما بين مؤيدين ومعارضين بداية،  لينتقل بعدها إلى تسويغٍ لقتل المختلفين سياسياً بداعي الإرهاب أو الخروج عن هذا "التجانس".

https://www.youtube.com/watch?v=bwTDf-YRGMg

ولا شك أنه ليس من قبيل المصادفة أن يطبق بشار الأسد بعد أشهر قليلة من خطابه عن التجانس، الحصار على غوطة دمشق الشرقية، ثم يضرب أهلها بالأسلحة الكيميائية. كما لا يمكن رفض ما استخدمه باحثون  في مجال العمران من مصطلح الأوربسايد (Urbicide) في سياق الصراع السوري، في محاولة لمحاكاة مفهوم الإبادة الجماعية، الجينوسايد (Genocide)، من منطلق عمراني، وذلك على اعتبار أن فرض الـ«تجانس» ليس إلا شكلاً من أشكال الإبادة. 

كذلك وقع كثير من المؤثرين والشخصيات العامة في فخ التحريض المباشر على القتل، ومنهم على سبيل المثال المذيعة المؤيدة للنظام السوري السابق غالية الطباع، التي دعت عبر حسابها على فيسبوك إلى ضرب "قسد وأطفالهم" بالكيماوي، كذلك دعا فنان سوري مؤيد للنظام يدعى ريبال الهادي إلى حرق أهل إدلب، وعلى المنوال ذاته أطل السياسي إبراهيم إبراهيم الذي شغل منصب المنسق الإعلامي لمجلس سوريا الديمقراطية في أوروبا في برنامج حواري على قناة أورينت ودعا فيه إلى إبادة نصف سكان إدلب.

واشتهرت أيضاً إحدى حلقات برنامج الاتجاه المعاكس، منتصف عام 2015، وطرح فيها الإعلامي فيصل القاسم استطلاعاً يقوم على سؤال "هل جنى العلويون على أنفسهم؟" وفضلاً عن أن مجرد طرح سؤال كهذا وجعله محوراً لنقاش حلقة، لا يعدّ طرحاً إعلامياً مهنياً، فإن تعليقه  المثير بعد استعراض نتائج الإستطلاع  من أن متابعي برنامجه "الذين يصلون إلى الملايين"، يجدون أنه من الأنسب وضع سؤالٍ كهذا "هل تريد أن تخوزق العلويين.. ومحو العلويين... الشعب السوري يريد أن يقتص منهم، فليبادوا". هذا الخطاب هو في الواقع دعوة صريحة للإبادة، خصوصاً أن فصائل المعارضة السورية كانت قد وصلت حينها لأول مرة إلى مناطق ذات غالبية علوية.

لم تكن السلطات الحالية بعيدة عن أجواء الخطاب التحريضي، صحيح أنه لم يصدر بشكل رسمي عنها، غير أنها غضت النظر عن تصاعده، وعن استخدام المساجد لبث خطابات تكفيريّة صريحة ومباشرة، كما وُثّق صدوره في بعض الحالات عن مسؤولين فيها في أوقات مختلفة. من بين الأمثلة في هذا السياق ما صدر قبل سنوات عن إبراهيم شاشو، الذي كان يشغل منصب وزير العدل في حكومة الإنقاذ في إدلب، وبحضور زعيم هيئة تحرير الشام أبو محمد الجولاني (الذي بات قائداً للإدارة الجديدة معتمداً اسمه الحقيقي: أحمد الشرع). كان شاشو وقتذاك حريصاً على أن يقرن ذكر بشار الأسد ونظامه بالطائفة العلوية، مع التأكيد على كفره و إجرامه "ضد أهل السنة"، وقد عُيّن شاشو قبل شهور مفتياً لحلب، وعميداً لكليّة الشريعة في جامعتها.

كذلك نجد دعوات أخرى للقتل والإبادة في الفترة السابقة لسقوط النظام كأغنية "شرطة نصيرية" التي رددها عبد الباسط الساروت، وشكلت حدثاً إشكالياً في سيرة الأخير إذ تتضمن الأغنية تهديداً للعلويين بالذبح، ومن جهة المعارضة أيضاً اشتهرت دعوة الناشط مازن الحمادة إلى قتل الكرد "الكبير قبل الصغير" ولكي يصبحوا "عبرة لمن يعتبر". 

صحيحٌ أن أغلب من يستخدمون هذا النوع من الخطاب عادةً ما يتراجعون عن مواقفهم تحت ضغط التفاعل على السوشيال ميديا، أو يعزون ذلك إلى الانفعال أو "الظروف النفسية"، أو يعتذرون، أو يتنصلون، أو تتبرأ منهم الجهات التي يمثلونها، غير أن انتشار هذا النوع من الخطاب وتكراره والتفاعلات الكبيرة التي تنشأ عنه قد تسهم في تكريسه ومراكمة أسباب النزاع، كما قد يؤثر على مستقبل السلم الأهلي والتعايش بين السوريين.

ولا يمكن إغفال الدور المحوري الذي لعبه خطاب الجماعات الجهادية في هذا السياق، لا سيّما تنظيم "داعش" المتطرّف الذي ملأ نشاطه الإعلامي الفضاء الرقمي لسنوات، وحفلت معظم إصداراته بحمولات مكثّفة من الخطاب الإبادي الموجه ضد شرائح واسعة من السوريين وغير السوريين، من علويين وشيعة ومسيحيين وأكراد، وغيرهم.  

هذه النماذج وغيرها من التي برزت خلال سنوات الحرب وانتشرت عبر مواقع التواصل الاجتماعي خلال حقبٍ متعددة، لاقت تفاعلاً كبيراً بين جمهور مؤيد لها وآخر يرفضها، وكثيراً ما يصبح الجدل واللغط على السوشيال ميديا، خصوصاً في فيسبوك دون امتلاك أدوات معرفية إزاء إدانتها أحد أسباب رواج هذا النوع من الخطابات، ما يساعد في وصول هذا الخطاب إلى قطاعات جديدة من المتلقين، الذين قد يتأثرون بها سلباً، أو قد تسهم هذه المواد والمنشورات في تشكيل سرديتهم حول المسائل العامة، وفي تكوين نظرة المجتمعات والأفراد نحو الآخر المختلف أو المتمايز ضمن بيئة النزاع والتوترات التي تنشأ عنها، ويسهل في خضمها بث الكراهية من حيث وجود استعداد نفسي للتمترس خلف نظرة جاهزة يبثها مؤثرون، أو قادة رأي، أو حتى فنانون، أو أشخاص مغمورون يبحثون عن الشهرة والرواج.

سياق تصاعد خطاب الكراهية ودعوات القتل والإبادة بعد سقوط النظام:

تواصلت عملية "ردع العدوان" التي شنتها هيئة تحرير الشام وفصائل أخرى متحالفة معها بشكل سلس نسبياً مع انهيار جيش بشار الأسد، وتقهقره بصورة دراماتيكية، ما حال دون حدوث مواجهات دامية، كما لم تسجل حالات استهداف ممنهج للمدنيين في بداية التحرك العسكري، وكان ذلك مبعث ارتياح مشوب بالتخوف لدى طيف واسع من المراقبين والناشطين والمشتغلين في الشأن العام، وبالغ البعض بالتفاؤل حينها لجهة عدم حدوث انتهاكات جسيمة خلال مرحلة السقوط.

رافق العملية العسكرية التي أفضت إلى سقوط نظام الأسد تصاعد متوقع لخطاب الكراهية بين معسكري النظام والمعارضة لم يخرج عن نطاق تقاذف السباب في التعليقات، واستخدام مفردات وتعابير على السوشيال ميديا كان قد قل استخدامها بعد فترات الهدوء النسبي وخفض التصعيد كمفردتي "الخنازير" و"الفطائس" وسرعان ما خفّفت الصفحات المؤيدة لنظام الأسد من بث هذا النوع من الخطاب مع إيقان القائمين عليها بحتمية السقوط، فمنها من غير ولاءه سريعاً، بينما توقفت العديد من تلك الصفحات عن النشر، ومنها من أظهر ندماً أو اعتذاراً، كما حذفت صفحات كثيرة أرشيفها القديم، وهذا ما خفض من تصاعد خطاب الكراهية فمال المزاج العام على السوشيال ميديا - في عمومه- نحو التهدئة، كما لم يستخدم خطاب الكراهية بشكل ملحوظ، باستثناء بعض الفيديوهات التي أظهرت حالات التشفي لدى المقاتلين الذين وصلوا لمناطق تمركز الطائفة العلوية وغيرها من المناطق التي عدّت مؤيدة النظام في فترة الحرب، ولم تتصاعد الأحداث بشكل جذري رغم وجود انتهاكات وأعمال تخريب لأضرحة دينية علوية وتوزيع منشورات تحريضية ضد الطائفة العلوية.

بدأ مسار الانتقال "السلس" للسلطة يتحول إلى العنف والدماء بعد أن تصاعدت الحملات الأمنية التي اقتحمت على إثرها القرى والأحياء بداعي البحث عن "فلول النظام السابق" ومصادرة السلاح، وتزامنت مع اقتراف المجازر الأولى ضمن مناطق تواجد الطائفة العلوية في الساحل السوري وأرياف حمص وحماة كمجزرة فاحل، وسرعان ما تفجر خطاب الكراهية سيما الإبادي منه مع إقدام مجموعات من الموالين لنظام الأسد باستهداف قوات الأمن العام التابعة لحكومة دمشق، والحديث عن وقوع عشرات القتلى بينهم في كمائن عدة، ومن ثم تصاعدت وتيرة التحريض وإطلاق النفير العام والتجييش عبر مكبرات الصوت في المساجد، وعبر قنوات تلغرام ومنها ما يرجح ارتباطه  بإدارة العمليات العسكرية وعلى باقي وسائل التواصل الاجتماعي الرائجة، ومن رجال دين متشددين خاطبوا جمهوراً كبيراً في الجوامع بخطابات طائفية، واصفين جميع العلويين بـ"الأرجاس" ومؤكدين على أنه "لا يمكن أن يعكر صفو الشام أية طائفة كانت، فالشام سنية، وستبقى سنية". 

شكلت المجزرة التي استهدفت عناصر الأمن العام مبتدأ للانتقام الممنهج والتحريض والخطاب الداعي للقتل والإبادة، وسرعان ما تحشّد مقاتلون من الفصائل وحتى من العشائر، ثم بدأ التوجه بأرتال طويلة من المسلحين إلى الساحل فيما يشبه النفير العام دون التحقق من الهويات أو التراتبية العسكرية أو حتى الفصائلية، واقترنت هذه الحملات والمجازر بخطاب الإبادة أو الدعوة لقتل شريحة من السوريين من قبل ناشطين وساسة ومؤثرين، وأثرت مفاعيل هذا التجييش في تحفيز العشرات من الموالين لحكومة الشرع للانخراط بشكل عشوائي في هذا النفير والذي نجم عنه أعمال إعدام وتنكيل واسعة خارج نطاق القضاء وعمليات نهب واستباحة صنفتها منظمة العفو الدولية بأنها جرائم حرب. وتشير العديد من التفسيرات إلى تورط أطراف تابعة لحكومة أحمد الشرع فيها، إذ أظهرت العديد من مقاطع الفيديو التي وثقها مرتكبو المجازر بأنفسهم أشخاصاً بثياب الأمن العام التابع لحكومة الشرع يقودون عمليات تنكيل وإعدام لمدنيين عزل، عدا عن ثبوت مسؤولية الحكومة لجهة تصريحها بضم فصائل من الجيش الوطني كـ"الحمزات" و"العمشات" التي دخلت في عداد الجيش السوري الحديث، وقد أكدت العديد من التقارير ارتكاب هذه الفصائل مجازر في الساحل عدا عن المقاتلين الأجانب الذين احتضنتهم هيئة تحرير الشام منذ بدايات تأسيسها وضمتهم لصفوفها، ويشار إلى هؤلاء على أنهم أكثر الفئات قياماً بالارتكابات لدرجة عدم تمييزهم بين المستهدفين بأعمال التصفية والانتقام وبين مواطنين آخرين بعضهم من الطائفة السنية.

وسائل التواصل الاجتماعي: ميدان التحريض الرحب 

استخدمت وسائل التواصل الاجتماعي بقوة لتسويق خطاب الإبادة، خاصة في ظل سهولة التفاعل وانتشار الحسابات الزائفة والذباب الإلكتروني، يعمق التفاعل الرقمي في هذا الصدد الانقسامات، ويخلق بيئات تعتمد في كثير من الأحيان ما يمكن أن نسميه "شرعية زائفة" فيما يشبه العدوى الجماعية، أو ما اصطلح عليه بـ"غريزة القطيع" ضمن دائرة مغلقة من المتشابهين في الرؤى والتقييم، بحيث تنشأ جماعات الكترونية مغلقة على نفسها وتردد سردياتها الخاصة، مما يقوض أي مساحة مشتركة للنقاش والتفاعل الإيجابي مع المختلفين في الرأي والانتماء، ويعزز الميل الغريزي نحو استخدام الوصم واعتماد لغة كارهة ونابذة للآخر، وصولاً إلى تبني خطاب إبادي داعٍ للقتل مع كل حادثة أو تصعيد يحصل بين الأطراف.

ضمن هذه الظروف والاشتراطات برزت دعوات تحريضية كثيرة من وسائل إعلامية، ومؤثرين، وساسة وعسكريين خلال فترة الصراع التي امتدت لأكثر من عقد، كما عملت أطراف الصراع على تكوين حسابات رديفة على السوشيال ميديا ومارست من خلالها التحريض والتضليل الإعلامي وأنشأت شبكات من الذباب الالكتروني للهجوم على الحسابات أو التبليغ عنها أو إغراقها بالتعليقات السلبية، كما اشتد خطاب الكراهية على وسائل التواصل الاجتماعي وتورط فيه أناس محسوبون على  كل أطراف الصراع أو من الحواضن والجماهير والنخب التي تصطف معها، أو تلتف حولها، أو تتقاطع معها في الآراء، ووصلت حدة هذا الشحن إلى درجة الدعوات الصريحة للإبادة والقتل. 

رسم تعبيري لـ Miguel Morales Madrigal / كارتون موفمينت

تعد الدعوات الصريحة للقتل جزءاً من خطاب الكراهية الذي تصنفه الأمم المتحدة باعتباره أحد أخطر أنواع الخطاب الذي يهدد الأمن العام وحقوق الإنسان، فخطاب الكراهية يشمل أي دعوة أو تصريح يروج للعنف أو التمييز ضد مجموعة معينة بناء على هويتها العرقية أو الدينية أو الطائفية أو أي انتماء آخر. وتسلّط خطة عمل الرباط التي أقرّت في 2012 الضوء على أهمية موازنة حرية التعبير مع حماية الأفراد من الدعوات التي تحث على العنف أو الإبادة. 

في هذا السياق، من المهم الوعي بحقيقة أن الإبادة الجماعية لا تحدث من تلقاء نفسها. فهناك دائماً مجموعة ظروف تحدث أو تُخلق لتهيئة المناخ المناسب لوقوعها، لذا هي ليست حدثاً منفصلاً عما قبله، بل عملية تبدأ في الغالب بعدم احترام الاختلافات بين الناس وتقسيمهم بين "نحن" و "هم"، إلى استخدام للصور النمطية، مروراً بممارسة التمييز  والتجريد من الإنسانية، إلى أن تنتهي بالتدمير الكلي أو الجزئي لمكون من المجتمع. لكن رغم ذلك يبقى هناك أمل بإيقاف هذه العملية ومنعها من الوصول إلى نهايتها، متى توافر الوعي بمراحلها الأولى، التي تكون عادة بمثابة إنذارات مبكرة حول الكارثة التي لا تنتهي آثارها ومفاعيلها على حياة ومستقبل المجتمعات، لعقود وأجيال متعاقبة، كما تقوله التجربة الإنسانية.

عوامل ظهور خطاب الإبادة في الحرب السورية

ازدياد وتيرة العنف وتحوله إلى نمط ممنهج: بدءاً من استخدام النظام للقوة المفرطة ضد المتظاهرين إلى تدمير المدن والأحياء والزج بعشرات الآلاف في المعتقلات والسجون، وكذلك لجوء المعارضة للسلاح، ومن ثم دخول "الجهاديين" والتكفيريين في الصراع. ومع تصاعد وتيرة العنف ارتكبت مجازر من قبل النظام، ووقع قتل طائفي متبادل، ما أسهم في تعزيز الشعور بالضغينة والرغبة في الانتقام لدى فئات من السوريين، إضافة إلى تبني خطاب أكثر تطرفاً مشتمل على التحريض والدعوة إلى القتل.

حدة الاستقطاب السياسي والطائفي: نشأ هذا الاستقطاب منذ بداية الصراع، ما جعل كل طرف ينظر إلى الآخر على أنه تهديد وجودي يجب إزالته وسحقه، مع تعدد أطراف الصراع والتدخلات الدولية ومنها الإعلامية التحريضية وتمركز أطراف الصراع حول هويات دينية وطائفية وقومية.

الدور السلبي لوسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي: ساهمت وسائل الإعلام الرسمية، وبعض الوسائل "المستقلة" في تأجيج الكراهية عبر التحريض المباشر أو غير المباشر، ونشر التضليل الإعلامي واعتماده في السياسات التحريرية لهذه الوسائل، كما في قنوات الإعلام الرسمي السوري، وقنوات ووسائل إعلام معارضة، ووسائل  إعلامية تابعة للإدارة الذاتية، ومئات من الصفحات والغرف على شبكات التواصل الاجتماعي التي نشرت أو ساهمت في تعزيز التصورات النمطية وحالات التحريض المتبادل، فضلاً عن خطاب القتل والإبادة.

غياب آليات المحاسبة وضعف المؤسسات القضائية وخضوعها للسلطة السياسية، أدى إلى غياب المحاسبة لمن يروج لخطاب الإبادة، أو يرتكب جرائم على أساسها.

تحويل خطاب الكراهية إلى أداة سياسية وعسكرية: استخدمت معظم أطراف الصراع خطاب التحريض ضد فئات معينة لحشد الدعم الشعبي وتحفيز المقاتلين وشد عصبهم، علاوة على أن بعض الجماعات بنت هويتها الأيديولوجية على مبدأ تصفية الطرف الآخر وإنهاء وجوده.

إعادة إحياء الذاكرة التاريخية المشتملة على العنف: إذ لم تكن التوترات الطائفية والعرقية جديدة على سوريا، وجاء الصراع الأبرز منذ 2011 ليبني على تلك التوترات القديمة، وينميها لصالح إدامة الصراع وتسعيره.

شبه غياب لدور المجتمع المدني والمنظمات المختصة بالتوعية ومكافحة هذا الخطاب، وبقاء تأثيرها محدوداً و"نخبوياً"، أي محصوراً ضمن أوساط معينة، فلم ترتق برامجها وأنشطتها لتسهم في الحد من توسع هذا الخطاب لا سيما في أوقات حدوث المجازر والانتهاكات.

غياب دور المؤسسات الدينية وعدم صدور فتاوى من المرجعيات الدينية لتحريم القتل على أسس طائفية وعرقية، وكذلك تحريم استعمال خطاب الكراهية والتحريض.

إهمال السلطات الجديدة لملف العدالة الانتقالية: رغم مرور نحو خمسة أشهر على سقوط النظام السابق لم تُتخذ أي إجراءات - ولو شكلية - تتعلق بملف العدالة الانتقالية، وهو أمر من شأنه أن يعزز النزعات الانتقامية ويؤجج خطاب التحريض ويكرس ثقافة الانتقام الجماعي.   

آليات مواجهة خطاب الإبادة والقتل ضمن السياق السوري

يعد تجريم خطاب الكراهية، وبالأخص ما يدعو منه إلى القتل الصريح بحق الأفراد والجماعات، استحقاقاً يجب ألّا تتغافل عنه الحكومة الانتقالية في دمشق، ولا أي طرف يمتلك النفوذ والقوة والسيطرة في سوريا، إذ إن السماح باستمرار هذا النوع من الخطاب دون رادع قانوني سيعزز ثقافة الانتقام، ويمهد الطريق لمزيد من الجرائم بحق المدنيين. ولعلّ أحداث الساحل السوري الأخيرة وما سبقها من مجازر ذات طابع طائفي تؤكد الحاجة الملحّة إلى تشريعات واضحة تحظر التحريض على العنف، وتجعل من الترويج لخطاب الإبادة جريمة يعاقب عليها القانون، سواء كان صادراً عن شخصيات سياسية أو دينية أو إعلامية أو حتى ناشطين على وسائل التواصل الاجتماعي، وأن تعمم هذه القوانين على عموم الجغرافيا السورية.

إضافة إلى التشريعات، لا بدّ من اتخاذ خطوات عملية على الأرض لمحاسبة مرتكبي الجرائم والانتهاكات وضمان عدم إفلاتهم من العقاب، خاصة أن خطاب الكراهية غالباً ما يكون مقدمة للأفعال العنيفة. فقد شهدنا في أحداث الساحل السوري الأخيرة كيف تحوّل خطاب الإبادة الذي رُوّج له عبر غرف تلغرام وصفحات التواصل الاجتماعي وعبر خطب رجال دين متشددين إلى أعمال قتل وتنكيل واسعة النطاق، ومن المفيد هنا السعي للتعاون مع المحاكم الدولية والمنظمات الحقوقية الدولية لتبادل الخبرات والمعلومات حول ملاحقة مرتكبي جرائم التحريض والإبادة، واستخدام الآليات الدولية المتاحة مثل الولاية القضائية العالمية في بعض الحالات.

إضافة إلى المساءلة القانونية، سيكون من المجدي الضغط وإثارة النقاش حول الضوابط المهنية لوسائل الإعلام، لا بغرض تقييد حرية الرأي والتعبير، بل لمنع استغلالها في نشر خطاب الكراهية خلال الأحداث الخطرة. فقد لعبت بعض القنوات الفضائية ومنصات التواصل الاجتماعي دوراً خطيراً في تأجيج الصراع السوري، من خلال منح مساحة واسعة لشخصيات تبنّت خطاباً إبادياً بشكل مباشر.

إلى جانب الجهود القانونية والإعلامية، قد يكون من المفيد اعتماد استراتيجيات مجتمعية تهدف إلى إعادة بناء الثقة بين المكونات المختلفة للشعب السوري. ويتطلب ذلك تبني برامج تعليمية تعزز ثقافة التسامح، وإطلاق مبادرات حوار وطني حقيقية تجمع ممثلين عن مختلف الطوائف والعرقيات والشرائح لمناقشة آليات المصالحة. كما ينبغي أن تعمل المنظمات الحقوقية والمدنية ومراصد التضليل وخطاب الكراهية على توثيق هذا الخطاب ودراسته بعمق تمهيداً لمحاصرته وتطويقه وكبح تأثيره على المجتمعات السورية.

* أُنجز هذا التقرير بالتعاون بين «صوت سوري» و «True Platform»