مجتمع التحقق العربي هو منظمة بحثية غير ربحية معنية بدراسة الأخبار الزائفة والمعلومات المضللة باللغة العربية على الانترنت، وتقديم الحلول الرائدة والمبتكرة لرصدها

رحلة بناء عادة التحقق: كيف تدرّب نفسك على مواجهة التضليل اليومي؟

رحلة بناء عادة التحقق: كيف تدرّب نفسك على مواجهة التضليل اليومي؟

 

لم تعد مواجهة التضليل تتطلب خبرة تقنية، بل تحتاج إلى عادة. عادةٌ صغيرة تبدأ بسؤال بسيط، «هل هذا صحيح؟». 

في كل مرة نطرح فيها هذا السؤال قبل المشاركة، نختار أن نكون جزءاً من الحل لا من المشكلة.

 

لماذا نحتاج إلى عادة يومية للتحقق؟

في عالم تتزاحم فيه الأخبار والمنشورات على شاشاتنا، أصبح التحقق مهارةً حياتية لا تقل أهمية عن القراءة والكتابة. فالفوضى المعلوماتية تتسع كل يوم، والخوارزميات تروج لما يثير المشاعر أكثر مما يعزز الحقيقة. كثيرون يظنون أنهم قادرون على التمييز بين الصواب والخطأ. لكن الدراسات تُظهر أن نحو 49٪ فقط يتحققون دائماً قبل المشاركة. لكن النصف الآخر لا يفعل ذلك، وغالباً ما يشارك المحتوى مدفوعاً بالعاطفة أو الثقة الزائدة أو حتى الرغبة في التفاعل السريع.

تعمل المنصات على مكافأة المنشورات الأكثر إثارة للانفعال، لا الأكثر دقة، فينتشر الخطأ أحياناً أسرع من الحقيقة بعشرة أضعاف. وهكذا يصبح المستخدم، من دون أن يدري، جزءاً من دائرة التضليل لا ضحيته فقط. لذلك، فإن عادة التحقق ليست ترفاً، بل سلوكاً يومياً يُعيد التوازن إلى علاقتنا بالمعلومات. فكما نراجع طعامنا قبل تناوله، علينا مراجعة المحتوى قبل مشاركته. والفرق بين من ينشر بعفوية ومن يتحقق أولاً، هو الفرق بين من يعيد إنتاج التضليل ومن يكسر سلسلته.

أصبح التحقق مهارةً حياتية لا تقل أهمية عن القراءة والكتابة

كيف تبدأ بناء روتين تحقق يومي؟

الخطوة الأولى هي ابدأ بالقرار: قرّر أن تجعل التحقق جزءاً من يومك، لا مهمة طارئة. عشر دقائق صباحاً أو مساءً كافية لتطوير هذه العادة.

ابدأ بسؤال بسيط أمام كل منشور: "هل هذا منطقي فعلاً؟ هل يتّسق مع ما أعرفه؟"

هذا التوقف القصير يمنحك فرصة للتفكير والبحث قبل أن تنفعل أو تشارك.

ولمساعدة نفسك أكثر، يمكنك اعتماد اختبار CRAAP الشهير، وهو مقياس عملي يقيّم مصداقية أي محتوى من خلال خمس نقاط:

- الرواج (Currency): هل المعلومات حديثة؟

- الصلة (Relevance): هل ترتبط بالموضوع فعلاً؟

- السلطة (Authority): من هو مصدرها؟

- الدقة (Accuracy): هل تدعمها أدلة واضحة؟

- الغاية (Purpose): ما الهدف من نشرها؟

لا تحتاج إلى أدوات خاصة لتطبيق هذا الاختبار، فقط انتبه للمصدر والسياق.

 

أدوات بسيطة للتحقق اليومي

التحقق لا يعني الغوص في قواعد البيانات أو الأدوات المعقّدة. هناك خطوات صغيرة يمكن لأي شخص القيام بها:

- البحث العكسي عن الصور: لمعرفة أصل الصورة وتاريخ ظهورها الأول.

- مراجعة الحسابات: تحقق من تاريخ إنشائها، وعدد متابعيها، ونمط منشوراتها.

- زيارة منصات التحقق من المعلومات العربية: فهي توفّر تقارير جاهزة يمكن أن توفر عليك الجهد.

- قائمة موثوقة للمصادر: احتفظ بروابط لوسائل إعلام ومنصات تحقق ترجع إليها دائماً عند الشك.

- تذكير ذهني بسيط: تخيّل أن كل منشور أمامك يحمل زرّاً مكتوباً عليه «توقّف قبل المشاركة».

بهذه الخطوات يتحول التحقق من ردّة فعل مؤقتة إلى عادة ذهنية يومية.

إن تنويع مصادر المعلومات يشبه النظر إلى المشهد من زوايا متعددة. فكل منصة أو وسيلة إعلامية تحمل انحيازاً أو منظوراً خاصاً بها، وحين يكتفي المستخدم بمصدر واحد، فإنه يرى جزءاً من الصورة فقط. 

تشير الدراسات إلى أن الأفراد الذين يتابعون أكثر من منصة، ويقارنون بين تغطيات مختلفة، يطورون حساً نقدياً أعلى وقدرةً أفضل على التحقق من مصداقية الأخبار. 

لذلك، فإن بناء «نظام مصادر متنوّع» — يضم صحفاً مستقلة، ومنصات تحقق، ومراكز أبحاث، وصفحات متخصصة — هو أحد أكثر الخطوات فعالية لتقوية عادة التحقق اليومية.

التحقق لا يكتمل عندما نقرأ جانباً واحداً فقط من القصة. فالمعلومات تكتسب معناها من السياق، والسياق لا يُفهم إلا بمقارنة وجهتي النظر. 

تؤكد دراسة بعنوان "Lit­eracy is necessary to understand Fact-Checking" أن مهارات محو الأمية الإعلامية والمعلوماتية ضرورية لفهم عمليات التحقق وتقييمها بوعي. 

فقبل مشاركة أي ادعاء، يجدر بنا التوقف لطرح سؤالين بسيطين: «ما الأدلة الداعمة؟» و«هل يوجد مصدر موثوق يقدم رواية مختلفة؟». 

إن ممارسة هذه الخطوة بانتظام تجعل التحقق عادة تلقائية لا تحتاج إلى جهد كبير، لكنها تحدث فرقاً هائلاً في مقاومة التضليل اليومي.

 

 كيف تدرّب نفسك على التفكير النقدي؟

التحقق لا يقوم فقط على الأدوات، بل على طريقة التفكير.

ولذلك، من المفيد أن تتبنى بعض الأساليب الذهنية البسيطة:

ابدأ بالتساؤل: من قال هذا؟ متى؟ ولماذا؟ هذه الأسئلة الثلاثة كفيلة بفتح الطريق نحو الشك الإيجابي.

اقرأ جانبي القصة. حتى لو كنت تميل لرأي معين، حاول أن ترى ما يقوله الطرف الآخر. التعدد المعرفي يحميك من التحيز.

راقب المحتوى العاطفي: الأخبار التي تثير الغضب أو الخوف أو الشفقة غالباً ما تنتشر بسرعة أكبر من الحقائق. عندما تشعر بالانفعال، توقّف قليلاً.

شارك تجاربك: أخبر أصدقاءك بما اكتشفته أو بما تحققت منه. فالتحقق عندما يُمارَس جماعياً يصبح أقوى وأكثر تأثيراً.

الدراسات تؤكد أن المستخدمين، حتى أولئك الذين يملكون مهارات رقمية عالية، قد يشاركون معلومات خاطئة لأنهم لا يمنحون أنفسهم وقتاً للتفكير. لذلك فإن “التروي قبل المشاركة” هو أداة الحماية الأولى.

”         
شارك تجاربك: أخبر أصدقاءك بما اكتشفته أو بما تحققت منه. فالتحقق عندما يُمارَس جماعياً يصبح أقوى وأكثر تأثيراً.

مثال تطبيقي بسيط

تخيّل أنك ترى منشوراً يقول إن "مدينة عربية غرقت بسبب فيضان".

قبل أن تشارك الخبر، جرّب هذه الخطوات القصيرة:

- افتح الصورة المرفقة وابحث عنها عكسياً.

- اقرأ التعليقات، قد تجد من كشف زيف الخبر بالفعل.

- تحقق من وجود تغطية للحدث في مواقع إخبارية معروفة.

- إن لم تجد مصدراً موثوقاً، احتفظ بالشك ولا تنشر.

بهذه الدقائق القليلة تكون قد منعت عشرات المشاركات الخاطئة من الانتشار.

 

فوائد تبنّي عادة التحقق

تعزيز الثقة بالمعلومة: ستتعلم أن تميّز بين الخبر الحقيقي والدعاية.

الحد من التضليل: كل مرة تتحقق فيها تقلل من فرصة وصول المعلومة المزيّفة لآخرين.

بناء سمعة رقمية مسؤولة: حين يعرف متابعوك أنك لا تشارك إلا ما هو موثوق، ستصبح مصدراً يُعتمد عليه.

المساهمة في وعي المجتمع: الوعي لا يُبنى من الأعلى فقط، بل من كل مستخدم يمارس التحقق كعادة يومية.

 

كيف تحافظ على هذه العادة؟

كأي عادة أخرى، الاستمرارية هي المفتاح.

ضع تذكيراً يومياً في هاتفك لتخصيص دقائق للقراءة الواعية، أو شارك في مجموعات مهتمة بالتحقق، أو تابع حسابات مدققي المعلومات.

ومع الوقت، ستجد أن السؤال «هل هذا صحيح؟» أصبح ردّ فعلك التلقائي أمام كل معلومة جديدة.

التحقق ليس مهمة ثقيلة ولا فعلاً نادراً، بل عادة يمكن لأي شخص أن يبنيها بالتدريب.

ابدأ بخطوات صغيرة، وثق أن التغيير يبدأ من الوعي الفردي.

عندما نتعلم أن نتوقف قبل المشاركة، نضع حاجزاً بسيطاً أمام التضليل، ونفتح الباب أمام وعيٍ جماعي أكثر نضجاً ومسؤولية.

في النهاية، مواجهة التضليل لا تبدأ من المؤسسات فقط، بل من كل مستخدم يختار أن يسأل قبل أن يشارك.