مجتمع التحقق العربي هو منظمة بحثية غير ربحية معنية بدراسة الأخبار الزائفة والمعلومات المضللة باللغة العربية على الانترنت، وتقديم الحلول الرائدة والمبتكرة لرصدها

كيف دمرت الحرب بيئة لا تملك صوتا؟

كيف دمرت الحرب بيئة لا تملك صوتا؟
kashif_ps

الكاتب

kashif_ps

تقرير: نيفين إسليم 

لا تبدو الحرب في غزة لمن يعيشها بتفاصيلها المؤلمة، مجرد أخباراً عاجلة أو صوراً مأساوية تعرض على الشاشات بل هي واقعاً ينهش الأرض والإنسان، ويهدم النظام البيئي الهش قطعة قطعة، هنا لا تقصف البيوت فقط بل تغتال الحقول وتسرق التربة، وتختنق الطبيعة بصمت لا يقل ألما عن صراخ الجرحى.

الأرض الخضراء أصبحت قاحلة

قبل الحرب كانت غزة تمتلك ما يقارب 170,000 دونم من الأراضي الزراعية، تنتج جزءا كبيرا من حاجاتها الغذائية وتوفر مصدر دخل رئيس لعشرات آلاف الأسر، لكن اليوم تشير تقارير محلية ودولية إلى أن أكثر من 60% من هذه الأراضي خرجت عن الخدمة إما بسبب التجريف أو القصف أو الاستيلاء عليها من قبل قوات الاحتلال.

في شرق خانيونس حيث كانت الأرض تفيض بالخضرة، بات المشهد مختلفا كليا حين تسير وسط الركام والرماد ، تسمع صوت الريح يصفر من فراغ الحقول، لا زقزقة طير، ولا عبير نبات.

يقول الحاج صبحي أبو جامع 67 عاما الذي أمضى حياته بين الزراعة والاهتمام بكروم الزيتون:

"هذه الأرض ورثتها عن والدي، ووالدي ورثها عن جدي كنا نزرعها عن حب، لا فقط عن حاجة، اليوم لا أجد فيها غير الحصى والحطب المحترق." ثم ينظر إلى الأفق ويتابع:

"منذ بدء الحرب  تم تجريف دونماتي السبعة بالكامل  حتى شجرة الزيتون التي كنت أستظل بها، لم تسلم داستها الجرافة كما لو كانت حجارة لم أعد أعرف كيف أعيش بلا أرضي." ولكن اليوم "نزرع لنقاوم" نزرع الخضروات و الأعشاب الطبية في حديقة خيمة حتى لو نبتت في الرمل، فهي تشهد أننا باقون، وأننا صامدون على أرضنا: 

من سلة غذاء إلى خيام من قهر

المواصي ذلك الامتداد الساحلي الزراعي في غرب خانيونس، الذي لطالما شكل رئة بيئية وملاذا زراعيا، تحول إلى خيمة كبيرة لآلاف النازحين الذين أقاموا خيامهم بين مزارع الخيار والباذنجان والبطاطا التي لم تعد تصلح للزراعة بسبب التلوث والازدحام.

أم سامي أحمد  نازحة من مدينة رفح تسكن الآن مع أطفالها الستة داخل خيمة قرب أحد البيوت البلاستيكية المتضررة تحكي وهي تحاول تهدئة طفلها المريض:

 "هربنا من القصف، بحثا عن الأمان، فوجدنا أنفسنا نعيش وسط الطين والحشرات هذه الأرض كانت مزروعة، الناس كانت تأتي لتشتري من خيرها الآن هي فقط  تستخدم لنصب الخيام، لا ماء ولا صرف صحي حتى الهواء هنا ثقيل."

في الجوار يجلس المزارع الشاب خالد أبو نعيم صاحب الأرض التي تجلس بها أم سامي، على طرف مزرعته المهجورة ينظر بحزن إلى ما تبقى من أدوات الري المتناثرة، يقول:

 “كان عندي أكثر من 3 دونمات مزروعة بالنعناع والبقدونس والخس أبيعها للجيران وأعيش منها بكرامة، اليوم لا أستطيع الاقتراب حتى لوجود عشرات العائلات أقامت فوقها خيام، والأرض ماتت."

محطات المياه بلا وقود ولا حياة

الحرب لم تلحق الأذى بالأرض فقط، بل عطلت شرايين الحياة المائية لأكثر من 65% من محطات ضخ المياه، وتعقيمها تعطل إما بسبب القصف أو نقص الوقود، ما جعل وصول المياه النظيفة شبه مستحيل لأكثر من 1.7 مليون نازح.

منظمات الإغاثة تقول إن العجز في إمدادات المياه وصل إلى مستوى كارثي، حيث يحصل الفرد على أقل من 3 لترات يوميا – أقل بكثير من الحد الأدنى الموصى به عالميا (15 لترا للفرد).

في مقابلة مع المهندس عاطف جابر وهو مدير عام في سلطة البيئة قال بصوت متعب بعد يوم عمل طويل:

"نحن نعمل بحدود الممكن، ولكن الوضع يفوق قدراتنا، المحطات لا تعمل إلا ساعات قليلة بسبب انعدام الوقود، والمياه التي نضخها لا تكفي حتى لغسل الوجوه الناس تشرب من خزانات مكشوفة، أو من آبار مالحة لا تصلح للاستهلاك".

ثم أضاف بتنهيدة خفيفة:

"بعض المحطات تعرضت للقصف المباشر، وبعضها الآخر معطل من دون صيانة منذ أشهر نحاول إعادة التشغيل بالطاقة الشمسية أحيانا، لكن سعة الألواح لا تكفي و نحتاج إلى حل جذري.

وتضخ يوميا أكثر من 130,000 م³ من مياه الصرف الصحي غير المعالجة إلى البحر بسبب توقف محطات المعالجة المياه الجوفية، التي يعتمد عليها معظم السكان، وقد أصبحت ملوثة بالمعادن الثقيلة ومخلفات الحرب".

الغلاء يلتهم موائد الفقراء

لم تتوقف تداعيات الكارثة البيئية عند حدود الأرض والماء، بل تسللت إلى موائد الناس لتجعل الخضروات رمز البساطة في غزة إلى رمز ترف بعيد المنال، بفعل التدمير الممنهج للأراضي الزراعية، والنزوح الجماعي إلى الحقول، وشلل حركة الري والزراعة، شهدت الأسواق ارتفاعًا جنونيا في أسعار المنتجات الزراعية، وعلى رأسها الخضروات الأساسية.

في جولة سريعة داخل أحد الأسواق في مدينة خانيونس،

ستجد أن سعر كيلو البندورة – الذي لم يكن يتجاوز 2 شيكل، وصل إلى أكثر من 100 شيكل، فيما بلغ سعر كيلو الخيار 120 شيكل، 

وقف أبو محمد عدوان وهو أب لأربعة أبناء يقف أمام بائع الخضار، يتفحص بعض حبات الطماطم بعينين ممتلئتين بالحسرة سأل عن السعر، ثم أدار وجهه، وقال لي:

تخيلي كيلو بندورة 100 شيكل؟ قبل الحرب كنت أشتري الكيلو 2 شيقل، وأنا موظف  بالكاد أوفر الخبز بالوقت الحالي ... أولادي يسألونني لماذا لا نأكل سلطة لا أستطيع شرح أن البندورة أغلى من اللحم، الآن كنا نأكل السلطة يوميا الآن نحسب كل حبة بندورة قبل أن نشتريها حتى العدس صار أرحم.

من جانبه يوضح أحمد زعرب  أحد تجار الخضروات أن حجم الخسائر الزراعية ونقص المعروض، وارتفاع كلفة النقل (بسبب قلة الوقود) أدت جميعها إلى هذا الغلاء الجنوني مضيفا:

الناس تعتقد أننا نربح، لكننا بالكاد نغطي التكاليف الزراعية  والتجار مديونون، هذا الغلاء ليس مجرد أزمة اقتصادية عابرة، بل هو نتيجة مباشرة لانهيار المنظومة البيئية والزراعية في غزة، وهو مؤشر صارخ على أن الأمن الغذائي في القطاع انهار تماما.

البيئة تدفع الثمن مرتين

يقول جابر بأن الحرب على غزة لا تدمر البشر فقط، بل تضرب في عمق البيئة الفلسطينية، القصف المتكرر أنتج كميات هائلة من الركام والغبار السام خاصة من المباني التي تحتوي على مواد خطرة مثل الأسبست والاسمنت والخرسانة، هذا الركام يترك مكشوفا، فيسرب سمومه إلى المياه الجوفية والتربة، ويزيد من خطر الأمراض التنفسية.

يحذر جابر  من آثار كارثية طويلة المدى:

الهواء في غزة أصبح مشبعا بجزيئات سامة من الغبار والركام، المياه الجوفية أيضا معرضة للتلوث بفعل تسرب هذه المواد، نحن لا نتحدث فقط عن دمار حالي ، بل عن أزمة بيئية ستستمر لسنوات بعد انتهاء الحرب .

بين الموت البطيء والمقاومة البيئية

رغم الدمار هناك محاولات خجولة من بعض المزارعين والمنظمات البيئية لإعادة الحياة إلى ما تبقى من الأرض، مبادرات صغيرة للزراعة في أوعية بلاستيكية، أو استخدام مياه رمادية للري بدأت تنتشر، لكنها تواجه نقصا حادا في الموارد والدعم.

ما يحدث في غزة ليس فقط حربا عسكرية، بل إبادة بيئية ممنهجة، الأرض تحاصر، الماء يقطع وملوث، والهواء يسمم، في صمت العالم، وإذا كانت الحرب تقاس عادة بعدد الضحايا والشهداء، فإن البيئة في غزة ضحية لا تدخل في الإحصاءات، لكنها تصرخ في كل حجر وشجرة ونبتة أعدمت على يد الاحتلال.

ما يحتاجه القطاع اليوم ليس فقط وقفا لإطلاق النار، بل مشروع إنقاذ بيئي شامل، يعيد الحياة للتربة، ويصلح ما أفسدته سنوات الحصار والحروب، ويمنح الطبيعة في غزة حقها في البقاء، كما يمنح الناس حقهم في الحياة.